سورة العصر
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة:حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . . وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه:
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار , وامتداد الإنسان في جميع الأدهار , ليس هنالك إلا منهج واحد رابح , وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده , وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
(والعصر , إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا , وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .
فما الإيمان ? ?
نحن لا نعرف الإيمان هنا تعريفه الفقهي ; ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر , وبالنواميس التي تحكم هذا الكون , وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلىعظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .
وفضلا عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق , فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعا بالوجود وما فيه من جمال , ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . . وهي سعادة رفيعة , وفرح نفيس , وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . . .
التعبد لإله واحد , يرفع الإنسان عن العبودية لسواه , ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد , فلا يذل لأحد , ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا , لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه , وكل ما يربطه بالله , أو بالوجود , أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة , وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه , وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها , وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة . . ولو كان فردا واحدا , لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق , وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة , مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد , وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نورا , والروح طمأنينة , والنفس أنسا وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق , والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء !
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلتة عارضة , ولا نزوة طارئة , ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع , ويتجه إلى هدف , ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله , فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح , والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله , يرفع من اعتباره في نظر نفسه , ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه , ويرده إلى منبت حقير , ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة !
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني , فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع , ليس فيه ما يستغرب , ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء !
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما , ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه !
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم , يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة , وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية , ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب , إنما هي كذلك تبعة جماعية , وتبعة تجاه الخير في ذاته , وإزاء البشرية جميعا . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله , فيكبر في عين نفسه , ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود , وعليه تبعة في نظام هذا الوجود . .
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند الله , وهو خير وأبقى . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة , والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير , ولأن الله يريده , ولا عليه ألا يدر الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى , ولا يغفل شيئا من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف .
ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا , لا دفعة طارئة , ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية , أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية , أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه , وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير , وشهود انتصار الحق على الباطل ! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير , الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير , وتتعلق به كل ثمرة من ثماره , وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته , صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية , وليس لها امتداد أو دوام !
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء , ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال , ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون , وتنسلك في طريق واحد , وفي حركة واحدة , لها دافع معلوم , ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل , ولا يشد إلى هذا المحور , ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم: (مثل الذين كفروا بربهمأعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء). . وجاء في سورة النور: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). . وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله , ما لم يستند إلى الإيمان , الذي يجعل له دافعا موصولا بمصدر الوجود , وهدفا متناسقا مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني , وتناسقه مع فطرة الكون كله , ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله . فهو يعيش في هذا الكون , وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان , بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل , كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى , وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران !
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان , والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك , كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا . وإلا فهو غير موجود !
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة وعمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير , متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص , والرابطة المميزة , والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح , الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعملالصالح ; فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير , متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن . .
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة:هوى النفس , ومنطق المصلحة , وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة , وظلم الظلمة , وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية , والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية , إذ تتفاعل معا فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح , وحراسة الحق والعدل , من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس , وجهاد الغير , والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل , وانطماس المعالم , وبعد النهاية !
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة , بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف , ووحدة المتجه , وتساند الجميع , وتزودهم بالحب والعزم والاصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها , ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران , فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها ; مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . .
هذا والمسلمون - أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير , وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم , وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم , وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله , راية الإيمان , لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله , لا شريك له , المسماة باسم الله لا شريك له , الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ? " . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله , وتحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية ":"الأئمة المسلمون وخصائصهم":
"ظهر المسلمون , وتزعموا العالم , وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ,وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا , وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم , وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم . " أولا:أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء , وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس , وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?)وقد قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط , ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
ثانيا:- أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس , بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد [ ص ] وإشرافه الدقيق , يزكيهم ويؤدبهم , ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله , وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله , أو أحدا حرص عليه " .
ولا يزال يقرع سمعهم:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). . فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب , فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة , ويزكوا أنفسهم , وينشروا دعاية لها , وينفقوا الأموال سعيا وراءها . فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد ; بل عدوه أمانة في عنقهم , وامتحانا من الله ; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم , ومسؤولون عن الدقيق والجليل , وتذكروا دائما قول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). . وقوله . . (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض , ورفع بعضكم فوق بعض درجات , ليبلوكم فيما آتاكم). .
"ثالثا:أنهم لم يكونوا خدمة جنس , ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان , لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما , ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فالأمم عندهم سواء , والناس عندهم سواء . الناس كلهم من آدم , وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا:خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر -:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم ? فلم يبخل هؤلاءبما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد , ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا , بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد , وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر , وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة , وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد , بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل , وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
"رابعا:إن الإنسان جسم وروح , وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح , لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها , ويتغذى غذاء صالحا , ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة , ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية , وأصحاب عقول سليمة راجحة , وعلوم صحيحة نافعة " . . .
إلى أن يقول تحت عنوان:"دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة ":
"وكذلك كان , فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . .
كانت حكومة من أكبر حكومات العالم , وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها , تسود فيها المثل الخلقية العليا , وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم , وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة , ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة , فتقل الجنايات , وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها , وتحسن علاقة الفرد بالفرد , و الفرد بالجماعة , وعلاقة الجماعة بالفرد . وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه , ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . " .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده , وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين منها هذا الضياع التي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان , والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر , والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور , وإذا هى كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح ! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل , وفي الحياة الباقية , وفي عالم الحقيقة , هناك الربح والخسر:ربح الجنة والرضوان , أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له , أو يرتكس فتهدر آدميته , وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة:
(يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا). .
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . .(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة , التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله [ ص ] إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة "العصر" ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي , يتعاهدان على الإيمان والصلاح , ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . .